فصل: المسألة الثانية: أفعال العباد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}.
هناك فرق بين أن تكلف بشيء فتفعله بحب، وأن تفعل شكلية التكليف وتخرج من عملك خروج الذي ألقى عن كاهله عبء التكليف.. في هذه الآية الكريمة دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل وكانا يقولان يا رب أنت أمرتنا أن نرفع القواعد من البيت وقد فعلنا ما أمرتنا.. وليس معنى ذلك أننا اكتفينا بتكليفك لنا لأننا نريد أن نذوق حلاوة التكليف منك مرات ومرات.
{ربنا واجعلنا مسلمين لك} نسلم كل أمورنا إليك. إن الإنسان لا يمكن أن ينتهي من تكليف ليطلب تكليفا غيره إلا إذا كان قد عشق حلاوة التكليف ووجد فيه استمتاعا.. ولا يجد الإنسان استمتاعا في التكليف إلا إذا استحضر الجزاء عليه.. كلما عمل شيئا استحضر النعيم الذي ينتظره على هذا العمل فطلب المزيد.
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمجرد أن فرغا من رفع القواعد من البيت قالا: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} ولم يكتفيا بذلك بل أرادا امتداد حلاوة التكليف إلي ذريتهما من بعدهما.. فيقولان: {ومن ذريتنا أمة مسلمة}.. ليتصل أمد منهج الله في الأرض ويستمر التكليف من ذرية إلي ذرية إلي يقوم القيامة.. ثم يقولان: {وأرنا مناسكنا}.. أي بين لنا يا رب ما تريده منا. بين لنا كيف نعبدك وكيف نتقرب إليك.. والمناسك هي الأمور التي يريد الله سبحانه وتعالى أن نعبده بها.
وقوله: {وأرنا مناسكنا} ترينا أن إبراهيم يرغب في فتح أبواب التكليف على نفسه، لأنه لا يرى في كل تكليف إلا تطهيرا للنفس وخيرا للذرية ونعيما في الآخرة.. ولذلك يقول كما يروي لنا الحق: {وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}.. وتب علينا ليس ضروريا أن نفهمها على أنها توبة من المعصية.. وأن إبراهيم وإسماعيل وقعا في المعصية فيريدان التوبة إلي الله.. وإنما لأنهما علما أن من سيأتي بعدهما سيقع في الذنب فطلبا التوبة لذريتهما.. ومن أين علما؟ عندما قال الله سبحانه وتعالى لإبراهيم: {ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلي عذاب النار وبئس المصير}.
لقد طلبا من الله تبارك وتعالى التوبة والرحمة لذريتهما.. والله يحب التوبة من عباده وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة.. لأن المعصية عندما تأخذ الإنسان من منهج الله لتعطيه نفعا عاجلا فإن حلاوة الإيمان- إن كان مؤمنا- ستجذبه مرة أخرى إلي الإيمان بعيدا عن المعاصي.. ولذلك قيل إن انتفعت بالتوبة وندمت على ما فعلت فإن الله لا يغفر لك ذنوبك فقط ولكن يبدل سيئاتك حسنات.. وقلنا أن تشريع التوبة كان وقاية للمجتمع كله من أذى وشر كبير.. لأنه لو كان الذنب الواحد يجعلك خالدا في النار ولا توبة بعده لتجبر العصاة وازدادوا شرا.. ولأصيب المجتمع كله بشرورهم وليئس الناس من آخرتهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذى وابن ماجه والدارمى في سننه والحاكم في مستدركه.
لذلك فمن رحمة الله سبحانه أنه شرع لنا التوبة ليرحمنا من شراسة الأذى والمعصية. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا}:

.قال ابن عطية:

واختلف في معنى طلبهم التوبة وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، وقيل: أرادا من بعدهما من الذرية كما تقول برني فلان وأكرمني وأنت تريد في ولدك وذريتك، وقيل وهو الأحسن عندي: إنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت وأطاعا أرادا أن يسنا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقال الطبري: إنه ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وبينه وبين الله تعالى معانٍ يحب أن تكون أحسن مما هي.
وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأتوب إلى الله في اليوم وأستغفره سبعين مرة» إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها لتزيد علومه واطلاعه على أمر الله، فهو يتوب من المنزلة الأولى إلى الأخرى، والتوبة هنا لغوية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا} اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ {وَتُبْ عَلَيْنَا} وهم أنبياء معصومون؛ فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب.
قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبنيا للناس ويعرّفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصّل من الذنوب وطلب التوبة. وقيل: المعنى وَتُبْ على الظلمة منّا. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} ففيه مسائل:

.المسألة الأولى: المعاصي في حق الأنبياء عليهم السلام:

احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلبًا للمحال، وأما المعتزلة فقالوا: إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة، ولقائل أن يقول: إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال، لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال.
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه:
أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشددًا في الانصراف عن المعصية، لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي، فيكون ذلك لطفًا داعيًا إلى ترك المعاصي، وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لاينفك عن التقصير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو، أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك.
وثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالمًا عاصيًا، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال: {وَتُبْ عَلَيْنَا} أي على المذنبين من ذريتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول: أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده: إن ولدي أذنب فاقبل عذره، لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه:
الأول: ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال: {واجنبنى وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام رَّبّ إِنَّهُمْ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36] فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه.
الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: وأرهم مناسكهم وتب عليهم.
الثالث: أنه قال عطفًا على هذا: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ}.
الرابع: تأولوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} [الأعراف: 11] بجعل خلقه إياه خلقًا لهم إذ كانوا منه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: {أَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي أر ذريتنا.

.المسألة الثانية: أفعال العباد:

احتج الأصحاب بقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} على أن فعل العبد خلق لله تعالى، قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى محالًا وجهلًا، قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا.
فقال: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] ولو كانت فعلًا لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالًا وجهلًا، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد، قال الأصحاب: الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه.
أولها: أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة.
وثانيها: أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله: عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة: علم وحال وعمل، فالعلم أول والحال ثانٍ وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب، يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة، وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى: إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل، أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابسًا له، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلًا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين، فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب، ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان، أنه صار محجوبًا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول: إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لابد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضًا ضروري، فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لابد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالبًا للمضار، ودفعًا للمنافع أيضًا أمر ضروري، فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وتب علينا}: قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب، والرجوع عن الذنب، والعزم على عدم العود، ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة، وكان الضمير في قوله: {وتب علينا} خاصًا بهما، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير.
قالوا: ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك}. وإن كان الضمير شاملًا لهما وللذرية، كان الدعاء بالتوبة منصرفًا لمن هو من أهل التوبة. وإن كان الضمير قبله محذوفًا مقدرًا، فالتقدير على عصاتنا، ويكون دعا بالتوبة للعصاة. ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرناه من الاحتمال. اهـ.
قوله تعالى: {إنك أنت التواب الرحيم} يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة، وبأن يريهما مناسكهما، وبأن يتوب عليهما.
فناسب ذكر التوبة عليهما، أو الرحمة لهما. وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله: {وتب علينا}. وتأخرت صفة الرحمة لعمومها، لأن من الرحمة التوبة، ولكنها فاصلة. والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا، لأن قبلها {إنك أنت السميع العليم}، وبعدها: {إنك أنت العزيز الحكيم}. اهـ.

.موعظة:

تب إلى الله ثم سله حوائجك.
رأيت من نفسي عجبا: تسأل الله عز وجل حاجاتها وتنسى جناياتها؟
فقلت: يا نفس السوء أو مثلك ينطق؟
فإن نطق فينبغي أن يكون السؤال فحسب.
فقالت: فممن أطلب مراداتي؟
قلت: ما أمنعك من طلب المراد إنما أقول حققي وانطقى.
كما نقول في العاصي بسفره إذا اضطر إلى الميتة لا يجوز له أن يأكل فإن قيل لنا: أفيموت! قلنا: لا بل يتوب ويأكل.
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك.
كما روى: «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
وقد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال ثم يسلبهما ويقول: مثلي لا يسأل «ما أبقت الذنوب لي وجها».
وهذا يختص ببشر لقوة معرفته كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحا فاستحى للزلل.
فأما أهل الغفلة فسؤالهم على بعد فافهم ما ذكرته وتشاغل بالتوبة من الزلل ثم العجب من سؤالاتك فإنك لا تكاد تسأل مهما من الدنيا بل فضول العيش.
ولا تسأل صلاح القلب والذين مثل ما تسأل صلاح الدنيا.
فاعقل أمرك فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جرف.
وليكن حزنك على زلاتك شاغلا لك عن مراداتك فقد كان الحسن البصري شديد الخوف فلما قيل له في ذلك قال:
وما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال اذهب لا غفرت لك. اهـ.